دراسة نقدية في ديوان مشاهد على رصيف الهذيان لـ : الشاعر الدكتور أحمد الدريس
صفحة 1 من اصل 1
دراسة نقدية في ديوان مشاهد على رصيف الهذيان لـ : الشاعر الدكتور أحمد الدريس
دراسة نقدية في ديوان مشاهد على رصيف الهذيان لـ : الشاعر الدكتور أحمد الدريس
بقلم : محمد خالد الخضر
مشاهد على رصيف الهذيان : قصيدة شعرية طويلة تشبه في مبدأ كتابتها شعر المعلقات ، و تناما و تسامى فيها الشكل و المضمون على أنهما وحدة كاملة لا تتجزأ تمثل واقعاً فنياً و سياسياً و اجتماعياً يتضمن في الضرورة حياة انفعالية عاشها الشاعر نتيجة تفاعـله الطبيعي الصادق بإحساس الموهوب و بمعاناةٍ أحـدثت التفاعـل بين ذاتـه و موضوعه الذي أنتج هذه القصيدة .
و أحمد الدر يس ذلك الشاعر البدوي صقلته ثقافته و ثقافة البادية و شمس الصحراء ، و سنابل القمح ، التي جعلت أشياءه تتناثر أحياناً و أحياناً تتوحد ليكتب القصيدة و يصرح بأعلى صوته : (( إنه بدوي ـ أناخ جمال الجراح ـ على ساحة من دم ـ فاستطالت بلاد من الريح في صمته ـ مد أحلامه في الفراغ ــ رمى رمحه من أعالي الخراب ـ ثقوب عباءته مشهد تتداخل فيه حروب موثقة فوق رمل الجزيرة ... )) .
لا أدري إذا كان الشاعر في قصيدته فكر كثيراً أو قليلاً إلا أن من الواضح أن الموهبة متوفرة لديه تماماً ، لقد خرج من الإطار التقليدي في بنية المقدمة الشعرية الدالة على مدخل القصيدة المشتعل جمالاً و رونقاً ، فكلنا يسعد بمقدمة أي قصيدة يقرؤها فيستمر أو كثيراً ما نلقي بالقصيدة جانباً إذا كانت شائكة المدخل متهرئة البداية ، كما تورط الكثيرون من شعراء الحداثة و منهم أصحاب أسماء لامعة فلجئوا إلى طعن أنفسهم و تراثهم حتى ينالوا قليلا من الرضا و هذا الرضا كان بعيداً عن أهلهم و ناسهم ، بيد أن الدر يس نتاج الموهبة الممتدة إلى هناك حيث كتب لبيد و عنترة و امرؤ القيس و سواهم ، دخل من باب القصيدة إلا أنه آمن أن الولد يجب أن يتطور عن أبيه ، حتى تكون الحياة مليئة بقليلٍ من الحضارة ، و استخدم ( البدوي و الجمل ) لأن حـدث الشاعر أو اكتشـافاته المفاجئة و اللامعة و التي تعبر عنه المعادلة الموسيقية المتآلفة مع القصيدة و إذا صح التعبير الفكرة و بنية الموضوع يجعله دون أن يدري يعترف بآبائه و أجداده و انتمائه اللا قليل ... غير أن الكلمات التي يسـتحضرها و يستلهمها تمتلك تداعيات تحمل عقلاً راجحاً وراء الصوت الـذي يوصـل القارئ أو المتلقي إلى صـورة مرئية و فكرة مجردة تنسكب بين الجراح مهدهدة آلام العصر المتردي ، و استشهد بمقطوعة :
( ... قال من أنا ؟ و بكى حتى أجابه الرمل : أنت تلك الفصول ــ و العبيد ــ و الهراوات اللاذعة ــ أنت سيد الصعاليك الذين يسرقون ذهب الشهوة من جلود السبايا الجميلات على الصدور اللاهثة ـ يدقون طبول الحرب للهزائم القادمة ــ و يرفعون الرماح ــ حتى تاريخ إعداد هذا البيان القديم .. ) .
إشارةً إلى أن الشاعر وحد بين جرس الكلمات الموسيقي و الفكرة ، و أعاد الكلمة إلى عقلانيتها ، في علاقة جدلية بين كل الأطراف المكونة للقصيدة ، و المترتبة أساساً على ذات العلاقة مع الجمهور ، و هذا ما حرص عليه كما أسلفت خلافاً لكثير من الشعراء الذين يكتبون اليوم و الذين أخرجوا القصيدة من جديتها ، في وقتٍ كانت كمـا قيل و أثبت أنها سجلت تاريخ الأمة و مفاخرها و أفراحها و أحزانها في حناياها إلى يوم لا يدركه إلا الله ، و لطالما احتفظ الدر يس لموهبته باحترامها ، و لم يشتغل على تشويهها ، كانت شـاهداً أمينـاً على جـرح الأمة العربية و التي أراد لها أن تبسط قليلاً من نزفه و أوجاعه في رحاب و مدى قصيدته التي هي بين أيدينا و تحدثنا عن بعض أشيائها ابتداءً أو مطلعها و يتابع قائلاً : ( ... أيها الناس انظروا ــ إن الستارة ترفع ــ ها هو ذا التصفيق يتعالى ــ و الممثل العاري ــ يدخل على ظهر زبيبة ــ و عنترة في المضارب ــ يجفف لعابه حين ــ يفيض صدر عبلة باللبن المعسّل ــ آه يا هذا البياض الذي يكتنز الحرية و يقتل العبيد ... ) .
و هذا المد القومي و الألم الوطني البعيد و القريب خرج من إطار نظرية ( الشعر للشعر ) برغم امتلاكها للقيمة الذاتية ، إلى الوصول إلى قيمة خارجية لنشر فضيلة و عواطف مع أسمى الحفاظ على شاعريته من الداخل و القيم الجمالية المرتبطة بالتجربة الاجتماعية و الشعرية ، و نظراً لتمكنه من ثقافته و موهبته فقد خالـف الكثير من النقاد و من دعاة الشعر و النقد و لم تتزعزع ثقته بنفسه ن و يحضرني ناقـد و محاضـر و مفكر اسمه ( برادلي ) الذي يقتضي تفكيره و قوله : (( بأن الاهتمام بالمحيط الخارجي من قبل الشعر و الشاعر و هو في لحظة المخاض الشعري و الكتابة ينزع إلى خفض سوية القيمة الشاعرية .. )) ـــ ثم صرح ( برادلي ) قائلاً في الشعر :
(( إن طبيعته ألا يكون جزءاً من العالم الواقعي و لا نسخةً منه ))
أما الدر يس عاكس برادلي و مؤيديه الكثر : الشعر يجـب أن ينسجم مع الظروف و المعتقدات و الحالات الاجتماعية .. و هذا ما أثبته التجارب الشعرية العربية التي من خلالها عرفنا البنية الحياتية لأغلب المجتمعات العربية و أحياناً الأجنبية .
و وجد الشاعر نفسه منغمساً بالحالة التي يعيشها ناسه في وطنٍ امتد من الماء إلى الماء .. و ليست بعيدة هـذه الحالة عن لقيط بن يعمر الأيادي و النابغة الذبياني و كعب بن زهير ، حيث كانت القصيدة وحدة تربط بين مقوماتها و مجتمعها .
و لا بد للقصيدة أن تكون في وجودها الروحي الذي يجعل الشاعر مسئولا بشكل هام أو في طليعة المسؤولية عن القضايا التي يؤثر في كرامة أمته بإدارته و معرفته و شعوره و عقله المتنور بمقومات موهبته ليجد حاله في أوج متهته المترتبة على قمة الكبرياء ، و ما نقده و هجومه و إطلاقه الرماح على أماكن التراجع بين قومه و ناسه إلا غيرة ما بعدها غيرة على بقاء قومه في أبهى الأماكن بين أقوام متكالبة على تقاسم أفراحنا و خيراتنا ، يقول :
( .. صفق الجمهور ــ هو ذا زهير بن أبي سلمى ــ يلقي قصيدته في الكونغـرس القبلي ــ يدعـو عبسـاً و ذبيان إلى مائدة المفاوضات دم بدم ـــ لا شأن للأمم المتحدة بكم ــ ادفعوا الديات مـن صـادرات النفط أو من وفورات الشهوة و الرقيق .. ) .
فهو لا يقبل أن يكون وجوده في اللاشيء أو يحيط به البهتان ، و لا يقبـل بوجـودٍ منعـزل على حافـة الانهيار و التسكع و السكر و العدم بل جعلته الإرادة و الموهبة في عمق الجرح ليعمل قصيدته بطريقة تجسيمية في خضم القلق الذي هو من ابرز خصائص الشاعر ، القلق المنطلق من حلم مهدد تخرج منه المادة الإبداعية بكامل البـراءة و الصدق بعيداً عن كل أنواع الخوف و التسلط في طرحٍ غير موجود ن و حـتـى لحظـة القصـيدة لم يتحقق و القصيدة كما أتى بها الشاعر احمد الدر يس بحاجة إلى وضوح و نور و حب سعياً لمحو ( الميتافيزيقا ) ليكون الشعر مؤثراً أو محققاً شيئاً من مبتغى الإنسان المقهور و ربما خالف الدر يس كثيراً من القادة و المنهزمين من الحقيقة إلا أنه وافق المبدعين مثل ( بول فاليري ) .. و من حالة الدهشة و الانبهار عاد الشاعر ليعيد اندماجه في وحدةٍ مقدسة بحضور الأشياء المكونة لمادته مختزلاً ما أراد باحثاً عن أحلام المحتاجين ليعطي إذا شاء له القدر أرضه و ترابه كثيراً من الحق .. من الكآبة عاد ليصرخ في وجه العبودية التي تحاول أمريكا و زبانيتها فرضها لإعادة الوحدة المفقودة و الفرحة الموءودة في مادة قابلة للقراءة و التداول و السير مع الزمن إلى الوراء و إلى الأمام و إلى كل الاتجاهات القياسية المرسومة لإنساننا المقهور و المحاصر حتى نخاعه ، و يسـتمر فـي قوله : ( باحثاً عن أبيه الذي صلبوه على حجر الحلم ــ فامتد حقلاً و خارطة في جدار الهواء ــ إنه البدوي على فمه مات حنظلة بن ناجي العلي ــ و مات الكثير من الحالمين بخبز و عز كثير و خمرٍ و ماء .. ) .
يريد أن يعود إلى الوراء للاندماج في الوسط الذي انبثق منه كما يريد المعرفة و التجديد منطلقاً من الهم الإنساني حسب متطلبات المصير بالحتمية التي لا بد منها ، هي لحظة المخاطرة و المناورة ليسكن الطبيعة الإنسـانية فـي حاسمة التناقضات ، هي القصيدة و تطلعات الآخرين الذي يغصّ و يختنق لو فارقهم يوماً ، هـم مكونات الوطـن و الروح و غذاء العصب و كرامة العقل .
ربما يصدق القول بأن الشاعر لا يعي ما يقول إلا أن هذا نتيجة تراكم الانفعالات و القضايا و الإشـكالات .. إنه الوعي الذي يثبت وجود الشاعر و يجعله متمسكاً بهمه و حلمه و قضاياه ، و هو الذي يربحه في مقياس الوجـود و معياره و هذا هو التجاوب إلى القوى الخفية التي اختلف الكثيرون على تسميتها فمنهم من يقول قـوى شـيطانية و منهم من يقول قوى إلهية و هذا التعبير الصدق كما ترتب قليلا عند أفلاطون و كثيراً عند بودلير .. و عند أحمد الدر يس ليعلن : ( من ترى يرفع السيف ؟! ــ من يفتح الجرح ــ كي ينفجر نهر الصديد ــ و يعلن أن كليباً سينهض منتضياً للنزال جريد النخيل ــ ينادي : ألا أين جساس بن بوش الصغير ؟ ــ دم بدم و ليكن ما يكون ـ ألا أين كل الغزاة الذين يرشون ماء الورود أمام رعاة البقر .. )
و لأن الشعر هو الجحيم أحياناً الذي يصل إلى درجة الرغبة في العقاب و هـو المتمرد في وجه العوائق فينفلت أحيانا من عقلانيته استجابةً للقلب فلم يعد الشاعر لأي قناعة سوى قناعة روحـه المتألمة فيخـرج ليمثـل القدامى و المعاصرين و الجائعين و الحالمين و الآخرين ، يمثل القمح إذا جافاه المطر و الطيور في السماء : أحلام الحرية القادمة ، إنه الشاعر الذي يثق أن جساس بن بوش سيلقى حسابه عاجلاً من آجلاً على يد من يخصّه ، فالتراب يكسب ناسه انتفاضة تستيقظ في وقتٍ ما كالقصيدة دون استئذان أو جواز سفر .
و يعود إلى نفسه ليبكي الخيبة و بمرارة و أسى ، و ما أقسى على النفس الحرة إذا حاصرها البكاء ، فتتكوم حول قصيدتها لتعترف بمهانة الأهل و الأقرباء .. و أين يكتب قوله : ( قمر بغدادي ، و ندامى ــ يلقون على أشجار النخيل رداء الروح ــ يغنون عتابا ـــ حتى يموت النايل من قطرة دمع ــ لم يبق بقعر الكأس سوى جرعة نصر و عناقيد الموت اكتنزت من خمر النكسة ــ و على جسر الأحلام نواسي يعبر نحو الكوخ خفيفاً يهزأ من قناصٍ أمريكي ـــ و عميل يتخفى بعقال وطني ــ ليصل إلى قوله :
كثيرون مثلي يجيئون من موتهم ــ يركبون المطايا ـــ إلى جنة يتناسل فيها الطغاة ملائكة ــ يذبحون على شرف الغانيات قطيعاً من الفقراء .. ) إنه تسلل إلى داخله شيئاً فشيئاً ليخرج الرحمة و يكون فوق أسراره دون أن ينسى أو يتخلص من موروث تجربته محاطاً بأحلامه التي يجب أن تحقق ذاته منفذاً عشقه بكل ما يملك من أدوات مدافعاً عنه و عن وجوده .. يتوه في الأضواء و يجن في مساحة العقل ليقاتل الانحطاط ، فاكتشف و أنا أقرأ ديوانه بأنه يصرّ على البقاء حيث يمتد جذره و يستريح انتماءه : ( يا أبي من زمان ــ و هم يطلقون عليك كلاب البراري ــ تكرر مشهد ذبحك بالناب ــ قاومت عنك بسيف النباح .. ) .
و يقف ليتفيأ بالحزن و يجثو على مخمل الشوك ، يسقط الأقنعة ، يدافع عن أبيه و قومه و وطنه هناك في الصحراء الممتدة من جرح العراق إلى نزف العروبة ، لا يؤمن بالأجزاء و لا بالانهزام في قصيدة متكاملة الوحدة مترامية الأطراف على نغم حزين يذكرني إلى دمي بقول لامورت : ( من الأسهل للمرء أن يعبر من الحد الأقصى إلى الحد الأقصى ، من أن يعبر درجة درجة )
هو الذي يريد أن يبدأ من الأقصى إلى الأقصى ليخبئ وطنه في جراحه العريضة ــ و تبقى كلمة : ربما يخطر في بال قارئ لماذا تعاملت بهذا الحب مع هذه القصيدة ؟!
أقول : لأنها من القصائد القليلة التي لا تعرف الكره لعربي و أنا دمي للعروبة .
بقلم : محمد خالد الخضر
مشاهد على رصيف الهذيان : قصيدة شعرية طويلة تشبه في مبدأ كتابتها شعر المعلقات ، و تناما و تسامى فيها الشكل و المضمون على أنهما وحدة كاملة لا تتجزأ تمثل واقعاً فنياً و سياسياً و اجتماعياً يتضمن في الضرورة حياة انفعالية عاشها الشاعر نتيجة تفاعـله الطبيعي الصادق بإحساس الموهوب و بمعاناةٍ أحـدثت التفاعـل بين ذاتـه و موضوعه الذي أنتج هذه القصيدة .
و أحمد الدر يس ذلك الشاعر البدوي صقلته ثقافته و ثقافة البادية و شمس الصحراء ، و سنابل القمح ، التي جعلت أشياءه تتناثر أحياناً و أحياناً تتوحد ليكتب القصيدة و يصرح بأعلى صوته : (( إنه بدوي ـ أناخ جمال الجراح ـ على ساحة من دم ـ فاستطالت بلاد من الريح في صمته ـ مد أحلامه في الفراغ ــ رمى رمحه من أعالي الخراب ـ ثقوب عباءته مشهد تتداخل فيه حروب موثقة فوق رمل الجزيرة ... )) .
لا أدري إذا كان الشاعر في قصيدته فكر كثيراً أو قليلاً إلا أن من الواضح أن الموهبة متوفرة لديه تماماً ، لقد خرج من الإطار التقليدي في بنية المقدمة الشعرية الدالة على مدخل القصيدة المشتعل جمالاً و رونقاً ، فكلنا يسعد بمقدمة أي قصيدة يقرؤها فيستمر أو كثيراً ما نلقي بالقصيدة جانباً إذا كانت شائكة المدخل متهرئة البداية ، كما تورط الكثيرون من شعراء الحداثة و منهم أصحاب أسماء لامعة فلجئوا إلى طعن أنفسهم و تراثهم حتى ينالوا قليلا من الرضا و هذا الرضا كان بعيداً عن أهلهم و ناسهم ، بيد أن الدر يس نتاج الموهبة الممتدة إلى هناك حيث كتب لبيد و عنترة و امرؤ القيس و سواهم ، دخل من باب القصيدة إلا أنه آمن أن الولد يجب أن يتطور عن أبيه ، حتى تكون الحياة مليئة بقليلٍ من الحضارة ، و استخدم ( البدوي و الجمل ) لأن حـدث الشاعر أو اكتشـافاته المفاجئة و اللامعة و التي تعبر عنه المعادلة الموسيقية المتآلفة مع القصيدة و إذا صح التعبير الفكرة و بنية الموضوع يجعله دون أن يدري يعترف بآبائه و أجداده و انتمائه اللا قليل ... غير أن الكلمات التي يسـتحضرها و يستلهمها تمتلك تداعيات تحمل عقلاً راجحاً وراء الصوت الـذي يوصـل القارئ أو المتلقي إلى صـورة مرئية و فكرة مجردة تنسكب بين الجراح مهدهدة آلام العصر المتردي ، و استشهد بمقطوعة :
( ... قال من أنا ؟ و بكى حتى أجابه الرمل : أنت تلك الفصول ــ و العبيد ــ و الهراوات اللاذعة ــ أنت سيد الصعاليك الذين يسرقون ذهب الشهوة من جلود السبايا الجميلات على الصدور اللاهثة ـ يدقون طبول الحرب للهزائم القادمة ــ و يرفعون الرماح ــ حتى تاريخ إعداد هذا البيان القديم .. ) .
إشارةً إلى أن الشاعر وحد بين جرس الكلمات الموسيقي و الفكرة ، و أعاد الكلمة إلى عقلانيتها ، في علاقة جدلية بين كل الأطراف المكونة للقصيدة ، و المترتبة أساساً على ذات العلاقة مع الجمهور ، و هذا ما حرص عليه كما أسلفت خلافاً لكثير من الشعراء الذين يكتبون اليوم و الذين أخرجوا القصيدة من جديتها ، في وقتٍ كانت كمـا قيل و أثبت أنها سجلت تاريخ الأمة و مفاخرها و أفراحها و أحزانها في حناياها إلى يوم لا يدركه إلا الله ، و لطالما احتفظ الدر يس لموهبته باحترامها ، و لم يشتغل على تشويهها ، كانت شـاهداً أمينـاً على جـرح الأمة العربية و التي أراد لها أن تبسط قليلاً من نزفه و أوجاعه في رحاب و مدى قصيدته التي هي بين أيدينا و تحدثنا عن بعض أشيائها ابتداءً أو مطلعها و يتابع قائلاً : ( ... أيها الناس انظروا ــ إن الستارة ترفع ــ ها هو ذا التصفيق يتعالى ــ و الممثل العاري ــ يدخل على ظهر زبيبة ــ و عنترة في المضارب ــ يجفف لعابه حين ــ يفيض صدر عبلة باللبن المعسّل ــ آه يا هذا البياض الذي يكتنز الحرية و يقتل العبيد ... ) .
و هذا المد القومي و الألم الوطني البعيد و القريب خرج من إطار نظرية ( الشعر للشعر ) برغم امتلاكها للقيمة الذاتية ، إلى الوصول إلى قيمة خارجية لنشر فضيلة و عواطف مع أسمى الحفاظ على شاعريته من الداخل و القيم الجمالية المرتبطة بالتجربة الاجتماعية و الشعرية ، و نظراً لتمكنه من ثقافته و موهبته فقد خالـف الكثير من النقاد و من دعاة الشعر و النقد و لم تتزعزع ثقته بنفسه ن و يحضرني ناقـد و محاضـر و مفكر اسمه ( برادلي ) الذي يقتضي تفكيره و قوله : (( بأن الاهتمام بالمحيط الخارجي من قبل الشعر و الشاعر و هو في لحظة المخاض الشعري و الكتابة ينزع إلى خفض سوية القيمة الشاعرية .. )) ـــ ثم صرح ( برادلي ) قائلاً في الشعر :
(( إن طبيعته ألا يكون جزءاً من العالم الواقعي و لا نسخةً منه ))
أما الدر يس عاكس برادلي و مؤيديه الكثر : الشعر يجـب أن ينسجم مع الظروف و المعتقدات و الحالات الاجتماعية .. و هذا ما أثبته التجارب الشعرية العربية التي من خلالها عرفنا البنية الحياتية لأغلب المجتمعات العربية و أحياناً الأجنبية .
و وجد الشاعر نفسه منغمساً بالحالة التي يعيشها ناسه في وطنٍ امتد من الماء إلى الماء .. و ليست بعيدة هـذه الحالة عن لقيط بن يعمر الأيادي و النابغة الذبياني و كعب بن زهير ، حيث كانت القصيدة وحدة تربط بين مقوماتها و مجتمعها .
و لا بد للقصيدة أن تكون في وجودها الروحي الذي يجعل الشاعر مسئولا بشكل هام أو في طليعة المسؤولية عن القضايا التي يؤثر في كرامة أمته بإدارته و معرفته و شعوره و عقله المتنور بمقومات موهبته ليجد حاله في أوج متهته المترتبة على قمة الكبرياء ، و ما نقده و هجومه و إطلاقه الرماح على أماكن التراجع بين قومه و ناسه إلا غيرة ما بعدها غيرة على بقاء قومه في أبهى الأماكن بين أقوام متكالبة على تقاسم أفراحنا و خيراتنا ، يقول :
( .. صفق الجمهور ــ هو ذا زهير بن أبي سلمى ــ يلقي قصيدته في الكونغـرس القبلي ــ يدعـو عبسـاً و ذبيان إلى مائدة المفاوضات دم بدم ـــ لا شأن للأمم المتحدة بكم ــ ادفعوا الديات مـن صـادرات النفط أو من وفورات الشهوة و الرقيق .. ) .
فهو لا يقبل أن يكون وجوده في اللاشيء أو يحيط به البهتان ، و لا يقبـل بوجـودٍ منعـزل على حافـة الانهيار و التسكع و السكر و العدم بل جعلته الإرادة و الموهبة في عمق الجرح ليعمل قصيدته بطريقة تجسيمية في خضم القلق الذي هو من ابرز خصائص الشاعر ، القلق المنطلق من حلم مهدد تخرج منه المادة الإبداعية بكامل البـراءة و الصدق بعيداً عن كل أنواع الخوف و التسلط في طرحٍ غير موجود ن و حـتـى لحظـة القصـيدة لم يتحقق و القصيدة كما أتى بها الشاعر احمد الدر يس بحاجة إلى وضوح و نور و حب سعياً لمحو ( الميتافيزيقا ) ليكون الشعر مؤثراً أو محققاً شيئاً من مبتغى الإنسان المقهور و ربما خالف الدر يس كثيراً من القادة و المنهزمين من الحقيقة إلا أنه وافق المبدعين مثل ( بول فاليري ) .. و من حالة الدهشة و الانبهار عاد الشاعر ليعيد اندماجه في وحدةٍ مقدسة بحضور الأشياء المكونة لمادته مختزلاً ما أراد باحثاً عن أحلام المحتاجين ليعطي إذا شاء له القدر أرضه و ترابه كثيراً من الحق .. من الكآبة عاد ليصرخ في وجه العبودية التي تحاول أمريكا و زبانيتها فرضها لإعادة الوحدة المفقودة و الفرحة الموءودة في مادة قابلة للقراءة و التداول و السير مع الزمن إلى الوراء و إلى الأمام و إلى كل الاتجاهات القياسية المرسومة لإنساننا المقهور و المحاصر حتى نخاعه ، و يسـتمر فـي قوله : ( باحثاً عن أبيه الذي صلبوه على حجر الحلم ــ فامتد حقلاً و خارطة في جدار الهواء ــ إنه البدوي على فمه مات حنظلة بن ناجي العلي ــ و مات الكثير من الحالمين بخبز و عز كثير و خمرٍ و ماء .. ) .
يريد أن يعود إلى الوراء للاندماج في الوسط الذي انبثق منه كما يريد المعرفة و التجديد منطلقاً من الهم الإنساني حسب متطلبات المصير بالحتمية التي لا بد منها ، هي لحظة المخاطرة و المناورة ليسكن الطبيعة الإنسـانية فـي حاسمة التناقضات ، هي القصيدة و تطلعات الآخرين الذي يغصّ و يختنق لو فارقهم يوماً ، هـم مكونات الوطـن و الروح و غذاء العصب و كرامة العقل .
ربما يصدق القول بأن الشاعر لا يعي ما يقول إلا أن هذا نتيجة تراكم الانفعالات و القضايا و الإشـكالات .. إنه الوعي الذي يثبت وجود الشاعر و يجعله متمسكاً بهمه و حلمه و قضاياه ، و هو الذي يربحه في مقياس الوجـود و معياره و هذا هو التجاوب إلى القوى الخفية التي اختلف الكثيرون على تسميتها فمنهم من يقول قـوى شـيطانية و منهم من يقول قوى إلهية و هذا التعبير الصدق كما ترتب قليلا عند أفلاطون و كثيراً عند بودلير .. و عند أحمد الدر يس ليعلن : ( من ترى يرفع السيف ؟! ــ من يفتح الجرح ــ كي ينفجر نهر الصديد ــ و يعلن أن كليباً سينهض منتضياً للنزال جريد النخيل ــ ينادي : ألا أين جساس بن بوش الصغير ؟ ــ دم بدم و ليكن ما يكون ـ ألا أين كل الغزاة الذين يرشون ماء الورود أمام رعاة البقر .. )
و لأن الشعر هو الجحيم أحياناً الذي يصل إلى درجة الرغبة في العقاب و هـو المتمرد في وجه العوائق فينفلت أحيانا من عقلانيته استجابةً للقلب فلم يعد الشاعر لأي قناعة سوى قناعة روحـه المتألمة فيخـرج ليمثـل القدامى و المعاصرين و الجائعين و الحالمين و الآخرين ، يمثل القمح إذا جافاه المطر و الطيور في السماء : أحلام الحرية القادمة ، إنه الشاعر الذي يثق أن جساس بن بوش سيلقى حسابه عاجلاً من آجلاً على يد من يخصّه ، فالتراب يكسب ناسه انتفاضة تستيقظ في وقتٍ ما كالقصيدة دون استئذان أو جواز سفر .
و يعود إلى نفسه ليبكي الخيبة و بمرارة و أسى ، و ما أقسى على النفس الحرة إذا حاصرها البكاء ، فتتكوم حول قصيدتها لتعترف بمهانة الأهل و الأقرباء .. و أين يكتب قوله : ( قمر بغدادي ، و ندامى ــ يلقون على أشجار النخيل رداء الروح ــ يغنون عتابا ـــ حتى يموت النايل من قطرة دمع ــ لم يبق بقعر الكأس سوى جرعة نصر و عناقيد الموت اكتنزت من خمر النكسة ــ و على جسر الأحلام نواسي يعبر نحو الكوخ خفيفاً يهزأ من قناصٍ أمريكي ـــ و عميل يتخفى بعقال وطني ــ ليصل إلى قوله :
كثيرون مثلي يجيئون من موتهم ــ يركبون المطايا ـــ إلى جنة يتناسل فيها الطغاة ملائكة ــ يذبحون على شرف الغانيات قطيعاً من الفقراء .. ) إنه تسلل إلى داخله شيئاً فشيئاً ليخرج الرحمة و يكون فوق أسراره دون أن ينسى أو يتخلص من موروث تجربته محاطاً بأحلامه التي يجب أن تحقق ذاته منفذاً عشقه بكل ما يملك من أدوات مدافعاً عنه و عن وجوده .. يتوه في الأضواء و يجن في مساحة العقل ليقاتل الانحطاط ، فاكتشف و أنا أقرأ ديوانه بأنه يصرّ على البقاء حيث يمتد جذره و يستريح انتماءه : ( يا أبي من زمان ــ و هم يطلقون عليك كلاب البراري ــ تكرر مشهد ذبحك بالناب ــ قاومت عنك بسيف النباح .. ) .
و يقف ليتفيأ بالحزن و يجثو على مخمل الشوك ، يسقط الأقنعة ، يدافع عن أبيه و قومه و وطنه هناك في الصحراء الممتدة من جرح العراق إلى نزف العروبة ، لا يؤمن بالأجزاء و لا بالانهزام في قصيدة متكاملة الوحدة مترامية الأطراف على نغم حزين يذكرني إلى دمي بقول لامورت : ( من الأسهل للمرء أن يعبر من الحد الأقصى إلى الحد الأقصى ، من أن يعبر درجة درجة )
هو الذي يريد أن يبدأ من الأقصى إلى الأقصى ليخبئ وطنه في جراحه العريضة ــ و تبقى كلمة : ربما يخطر في بال قارئ لماذا تعاملت بهذا الحب مع هذه القصيدة ؟!
أقول : لأنها من القصائد القليلة التي لا تعرف الكره لعربي و أنا دمي للعروبة .
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى