دراسة في ديوان بستان عائشة للشاعر العربي عبد الوهاب البياتي
صفحة 1 من اصل 1
دراسة في ديوان بستان عائشة للشاعر العربي عبد الوهاب البياتي
دراسة في ديوان بستان عائشة للشاعر العربي عبد الوهاب البياتي
بقلم : محمد خالد الخضر
بعيداً عن الترف , و قريباً من الروح , و بين آلام و أوجاع المنكوبين , تطلع قصائد تختلف كثيراً عن سواهاً. تجعلك تحلم بينها و تحلم , و ثمة حلم قد يتحقق نتيجة مخاض و وجع إنساني .
قلائل هؤلاء الشعراء فأنا أحبهم كثيراً حتى الوجع , واحد منهم و من أهمهم الشاعر العربي الكبير عبد الوهاب البياتي الذي أماته الوجع كما أمات أمل دنقل و كمال ناصر و غسان كنفاني , و إن اختلفت الأداة و الوسيلة لكن النتيجة و الغاية واحدة موحدة مترابطة .
أما عبد الوهاب البياتي صديق نزيفي القديم الذي اعتدت أن أعود إلى أشعاره كلما وجدت فقيراً بالشارع يحلم بالرغيف , و كلما وجدت على شاشة التلفاز طفلاً تحمله الدموع إلى مثواه ما قبل الأخير , لأن مآله فضاءات الجنة و رحاب الله الواسعة التي تسكن ذاكرة القداسة .
أتمنى أدرس كل شيء كتبه و لابد لي أن أفعل ذات يوم , هي يدي و هذا قلبي و ذاك بينهما بستان عائشة , واحد من بساتين البياتي الذي يزينه نخيل بغداد و قمر شيراز ولابد لي أن أترك عواطفي قليلا و أحاول الاقتراب من أشياء الشاعر عبد الوهاب البياتي , حيث يقدم نوعاً من التقنية التي تميزت بنظام بنيوي يتفرد به قليل من الشعراء , ذلك السهل الممتنع الذي تتميز لقطته الشعرية بوحدة الموضوع التي تعتمد العاطفة والإحساس تاركاً زخرفات التصنع في حال عدم الاضطرار إليها و لأنها كثراً ما ترهق القص الشعري الذي يطلع من الانفعال و الألم الذي يعم شره على الإنسان غية الشاعر الحقيقي و مبتغاه ... يقول البياتي في مقطوعة تحمل عنوان ,من أوراق عائشة : قالت : سأقتله ... و أحمل رأسه لقبيلتي
صنماً لتعبده ... و تحرقه , إذا اقتتلت
و في الصحراء أبني معبداً للحب ... يحمل اسمه
إن البنية الشعرية التي اشتغل فيها البياتي تذكر القارئ بعمر أبي ربيعة مع فارق التشبيه التربوي , وبعمر أبي ريشة ونزار قباني من حيث بنية القصيدة الاجتماعية عند نزار والعاطفية عند عمر ويلتقي الجميع بالارتكاز على الكم والكيف , حيث الأولى تبدأ خلالها عملية تراكم الألم أو الفرح أو الحالة العاطفية التي يفترض أن تبنى عليه القصيدة ,فتبدأ بالقراءة لتجعلك المرحلة الأولى تلتصق بالثانيةإلى الخاتمة .
فالمقطوعة الشعرية التي أتيت بها يشعر القارئ أنه لابد من إحضار بقيتها ونرى
قوله مثال ذلك :
تأوي إليه الطير , في زمن المجاعة ... أرتدي الأسمال ... أعقر ناقتي ...
في باب معبده أنوح .
قالت : سأحمله ...إذا مرت عصور خاتما في إصبعي
وأنوح في جوف الضريح.
هنا يجد القارئ أن الحالة الشعرية اكتملت ونضجت , وهذا ما يدل على تكامل وتماسك وحدة الموضوع , ويتجاوز البياتي حالة الشكل ليدخل في صميم العاطفة ويرسم الجرح بتقنية فنية ليكون كما يوصف في مقدمة رواد الحركة الشعرية الحديثة
و كون البياتي شديد الالتصاق بالمنكوبين و المجروحين فإن قصيدته تحتاج إلى تحقيق التوافق و الانسجام مع الموسيقى الداخلية والمرتكزة على النظام المعروف مع الاحتفاظ بحية عدد التفعيلات وطبيعة حركتها . . يقول البياتي :
الناي يبكي : إنها الغابات , تبحث , سيدي عن قوتها في باطن الأرض العميق .
الناي يبكي : إنها ريح الخريف .
الناي يبكي : إنها الأبراج داهمها الحريق .
الناي : إنسان يقاوم موته , موت الطبيعة و الفصول .
و لأن الشاعر استخدم تقنية أخرى بعيدة عن الإغراق في الرمز , استخدم الإيقاعية الداخلية و المعقدة التركيب و سهلة الوصول , وتختلف تماما عن القصيدة المزخرف بلا مضمون , فاعتمد على انسياب المعنى بشكل متدفق و عاطفي يتوحد و ينسجم المعنى التي تقوم عله مهمة الشعر مع النغمة الموسيقية بشكل حيوي فيدخل القارئ في مناخ عاطفي يحرك ماهو بداخله عبر التكثيف الكامل دون قصد أو تخطيط , تنشط عفويتها ذاكرة المتلقي ليصل إلى الاستقرار النفسي حيال ما يشغل عواطفه و باله , و لابد من الإشارة على أن طريقة قفل المقطع أو الشطر يخلق شكلاً أو حالة منسجمة مع القصيدة و المفردات و البقاء النص و الاحتفاظ بذكرياته الحساسة , و يعمل البياتي خلال توافق القوافي و ترتيبها على الاهتمام بالقيمة المعنوية لفكرته المنشودة على أساس يشعرك أن أنسنة الأشياء و المفردات المستخدمة لديه و القضايا الرثائية لاتخص فداً بعينه , بيد أن المقصود ضمير الإنسان , و الأكثر أهمية الإنسان المسحوق و المظلوم و الذي لا يجد من يطالب له بشيء من حقه , يقول البياتي : قالت : "ستموت غداً , مسموماً في المنفى أو مذبوحاً في سكين صديق أو مخبر سلطان"
قال مخنث بابل : "أنت الآن .... مأسور , باسم الشعراء الخصيان" .
وإذ تتنوع المواضيع تتجلى القدرة الدرامية و تتصاعد العاطفة مع الزمن الشعري وفق التجربة أو النسيج المشغول في بنائه و تركيبه , و على تعدد الوحدات المشكلة للنص , فتأتي الوحدة الكلية لتشعر القارئ أنه أمام بناء متكامل حتى و لو كان المقطع يتكون من عشرة كلمات أو أقل أو أكثر بقليل وفق الشروط أو الأسس الخاصة بالمقطوعة وصولاً إلى غاية الشعر و ضرورة التصاق ما يأتي به بعوالمه المحيطة أو بناسه ... يقول البياتي :
وجهك في المرآة : وجهان
فلا تكذب .
فإنً الله . .. يرك في المرآة .
و ثمة خرق أقدم عليه الشاعر من حيث البنية التقليدية و اعتماد الوزن , وفي أغلب الأحيان القافية ليوجد شكلاً أو أنموذجا جديداً يهيمن على ذوق المتلقي , و على تقديم جمالية أخرى تبعا لقدرته و حسن استخدامه لموهبته الأخاذة .
كما أنه يبتعد عن الوقوف غالباً داخل القصيدة أو النص لأنه يشعر في بعض الأحيان أن ذلك يؤدي إلى الضعف و النفور أو الانكماش لأن القارئ رفض بشدة قصيدة الحداثة أيام ولادتها الأولى , كما يغلب على البياتي المحاولة الجادة بعدم اختراق الوزن كما فعل كثير من الشعراء , , إذا اضطر إلى ذلك فلابد من الخروج إلى تفعيلة أخرى تجعل القارئ يحتفظ باحترامه للانسياب العاطفي الذي كان قد انسجم معه ... يقول البياتي في مدن الخوف :
مدن تعيش على الإشاعات / الأكاذيب / الأقاويل / الخواء .
و على دم الإنسان و الحق المضاع .
و تنام في خوف على باب الطواغيت الصغار .
و بعضوها / المذياع / تفتح ما تشاء .
و برغم ما يظهر من هدوء على قصيدة البياتي , إلا أن الصدق الكامن في أعماق النص الشعري لديه يجعل المتلقي يتلمس المفردات و المقاطع فيراها مشحونة بتكثيف معبر خلال الزخم الطالع من الإحساس المكون عواطف الشاعر الذي يأبى إلا أن تكون منسوجة من عواطف الإنسان و همومه , لهذا تأتي كلماته و مفرداته الشعرية مليئة بالدهشة برغم من تخيل القارئ أن الثورة هادئة في شعره , و الوقع أنها أقدر من غيرها على التحريض لما تملكه من زخم و عاطفة صادقة .. يقول :
يتوهج في نور المشكاة .
متحداً في ذات الله .
لا / مثل شعوب الأرض .
يتحدى في ثورته الموت .
و من هنا نجد أن النص الشعري يحمل في دواخله خفايا تلامس الجرح المقابل , تشتعل فتوقد ناراً ثم تذهب إلى مكانها كالنيازك , و لابد مكن أن تدرك أن الشاعر هنا ابتعد عن التشتت و الرمز و الضياع , فهو يدرك أن القصيدة الغارقة بالرمز منهزمة تماماً فلا أثر لها على فرد أو على جماعة مهما تمادى الإدعاء أو تطاول ... فالبياتي حاضر تماماً في الشعر الرشيق , يستخدم أدواته و يعبر عن مكنوناته و هو متمكن من خلف الحالة التي تدخل التاريخ حتى و لو اتهمت بالوضوح فلابد لأي قارئ أن يتريث قليلاً البنى الأخرى الدالة على متانة البنى التحتية لقصيدة قوامها الإنسان .
يقول البياتي في بستان عائشة :
بستان عائشة على الخابور .
كان مدينة مسحورة
عرب الشمال .
يتطلعون على قلاع حصونها , و يواصلون البحث عن أبوابها .
و يقدمون ضحية للنهر في فصل الربيع .
لعل أبواب المدينة تستجيب لهم .
و هنا تكمن القيمة الجمالية التي ترتكز عليه القصيدة من حيث ما تحتوي من تلاحق المعاني و الصور التي ترتبط ببعضها بشكل وثيق مع القوة الدلالية و النسيج المؤسس لقصيدة يشعرك البياتي أنك من المفترض أن تتلمس كيانها كاملاً في تجربته العريق و الأصيلة ... فلماذا لا نكمل قوله في بستان عائشة وهو يقول ؟ :
فتفتح كلما داروا / ....... اختفى البستان ...... و اختفت الحصون .
فإذا خبا نجم الصباح .
عادوا إلى "حلب" لينتظروا ..... و يبكوا ألف عام .
فلعلهم في رحلة أخرى إلى الخابور
يفتتحونها ... و لعلهم لا يفلحون .
ألا يشعر القارئ بشيء غريب ربما تدفعه الدهشة للبكاء أو اليأس أو الأمل ... و أخيرا: لقد مات عبد الوهاب البياتي و هناك في قاسيون على جرح ما احتضنته عريشة ياسمين و طارت إلى بستان عائشة ليخلدا معاً .
بقلم : محمد خالد الخضر
بعيداً عن الترف , و قريباً من الروح , و بين آلام و أوجاع المنكوبين , تطلع قصائد تختلف كثيراً عن سواهاً. تجعلك تحلم بينها و تحلم , و ثمة حلم قد يتحقق نتيجة مخاض و وجع إنساني .
قلائل هؤلاء الشعراء فأنا أحبهم كثيراً حتى الوجع , واحد منهم و من أهمهم الشاعر العربي الكبير عبد الوهاب البياتي الذي أماته الوجع كما أمات أمل دنقل و كمال ناصر و غسان كنفاني , و إن اختلفت الأداة و الوسيلة لكن النتيجة و الغاية واحدة موحدة مترابطة .
أما عبد الوهاب البياتي صديق نزيفي القديم الذي اعتدت أن أعود إلى أشعاره كلما وجدت فقيراً بالشارع يحلم بالرغيف , و كلما وجدت على شاشة التلفاز طفلاً تحمله الدموع إلى مثواه ما قبل الأخير , لأن مآله فضاءات الجنة و رحاب الله الواسعة التي تسكن ذاكرة القداسة .
أتمنى أدرس كل شيء كتبه و لابد لي أن أفعل ذات يوم , هي يدي و هذا قلبي و ذاك بينهما بستان عائشة , واحد من بساتين البياتي الذي يزينه نخيل بغداد و قمر شيراز ولابد لي أن أترك عواطفي قليلا و أحاول الاقتراب من أشياء الشاعر عبد الوهاب البياتي , حيث يقدم نوعاً من التقنية التي تميزت بنظام بنيوي يتفرد به قليل من الشعراء , ذلك السهل الممتنع الذي تتميز لقطته الشعرية بوحدة الموضوع التي تعتمد العاطفة والإحساس تاركاً زخرفات التصنع في حال عدم الاضطرار إليها و لأنها كثراً ما ترهق القص الشعري الذي يطلع من الانفعال و الألم الذي يعم شره على الإنسان غية الشاعر الحقيقي و مبتغاه ... يقول البياتي في مقطوعة تحمل عنوان ,من أوراق عائشة : قالت : سأقتله ... و أحمل رأسه لقبيلتي
صنماً لتعبده ... و تحرقه , إذا اقتتلت
و في الصحراء أبني معبداً للحب ... يحمل اسمه
إن البنية الشعرية التي اشتغل فيها البياتي تذكر القارئ بعمر أبي ربيعة مع فارق التشبيه التربوي , وبعمر أبي ريشة ونزار قباني من حيث بنية القصيدة الاجتماعية عند نزار والعاطفية عند عمر ويلتقي الجميع بالارتكاز على الكم والكيف , حيث الأولى تبدأ خلالها عملية تراكم الألم أو الفرح أو الحالة العاطفية التي يفترض أن تبنى عليه القصيدة ,فتبدأ بالقراءة لتجعلك المرحلة الأولى تلتصق بالثانيةإلى الخاتمة .
فالمقطوعة الشعرية التي أتيت بها يشعر القارئ أنه لابد من إحضار بقيتها ونرى
قوله مثال ذلك :
تأوي إليه الطير , في زمن المجاعة ... أرتدي الأسمال ... أعقر ناقتي ...
في باب معبده أنوح .
قالت : سأحمله ...إذا مرت عصور خاتما في إصبعي
وأنوح في جوف الضريح.
هنا يجد القارئ أن الحالة الشعرية اكتملت ونضجت , وهذا ما يدل على تكامل وتماسك وحدة الموضوع , ويتجاوز البياتي حالة الشكل ليدخل في صميم العاطفة ويرسم الجرح بتقنية فنية ليكون كما يوصف في مقدمة رواد الحركة الشعرية الحديثة
و كون البياتي شديد الالتصاق بالمنكوبين و المجروحين فإن قصيدته تحتاج إلى تحقيق التوافق و الانسجام مع الموسيقى الداخلية والمرتكزة على النظام المعروف مع الاحتفاظ بحية عدد التفعيلات وطبيعة حركتها . . يقول البياتي :
الناي يبكي : إنها الغابات , تبحث , سيدي عن قوتها في باطن الأرض العميق .
الناي يبكي : إنها ريح الخريف .
الناي يبكي : إنها الأبراج داهمها الحريق .
الناي : إنسان يقاوم موته , موت الطبيعة و الفصول .
و لأن الشاعر استخدم تقنية أخرى بعيدة عن الإغراق في الرمز , استخدم الإيقاعية الداخلية و المعقدة التركيب و سهلة الوصول , وتختلف تماما عن القصيدة المزخرف بلا مضمون , فاعتمد على انسياب المعنى بشكل متدفق و عاطفي يتوحد و ينسجم المعنى التي تقوم عله مهمة الشعر مع النغمة الموسيقية بشكل حيوي فيدخل القارئ في مناخ عاطفي يحرك ماهو بداخله عبر التكثيف الكامل دون قصد أو تخطيط , تنشط عفويتها ذاكرة المتلقي ليصل إلى الاستقرار النفسي حيال ما يشغل عواطفه و باله , و لابد من الإشارة على أن طريقة قفل المقطع أو الشطر يخلق شكلاً أو حالة منسجمة مع القصيدة و المفردات و البقاء النص و الاحتفاظ بذكرياته الحساسة , و يعمل البياتي خلال توافق القوافي و ترتيبها على الاهتمام بالقيمة المعنوية لفكرته المنشودة على أساس يشعرك أن أنسنة الأشياء و المفردات المستخدمة لديه و القضايا الرثائية لاتخص فداً بعينه , بيد أن المقصود ضمير الإنسان , و الأكثر أهمية الإنسان المسحوق و المظلوم و الذي لا يجد من يطالب له بشيء من حقه , يقول البياتي : قالت : "ستموت غداً , مسموماً في المنفى أو مذبوحاً في سكين صديق أو مخبر سلطان"
قال مخنث بابل : "أنت الآن .... مأسور , باسم الشعراء الخصيان" .
وإذ تتنوع المواضيع تتجلى القدرة الدرامية و تتصاعد العاطفة مع الزمن الشعري وفق التجربة أو النسيج المشغول في بنائه و تركيبه , و على تعدد الوحدات المشكلة للنص , فتأتي الوحدة الكلية لتشعر القارئ أنه أمام بناء متكامل حتى و لو كان المقطع يتكون من عشرة كلمات أو أقل أو أكثر بقليل وفق الشروط أو الأسس الخاصة بالمقطوعة وصولاً إلى غاية الشعر و ضرورة التصاق ما يأتي به بعوالمه المحيطة أو بناسه ... يقول البياتي :
وجهك في المرآة : وجهان
فلا تكذب .
فإنً الله . .. يرك في المرآة .
و ثمة خرق أقدم عليه الشاعر من حيث البنية التقليدية و اعتماد الوزن , وفي أغلب الأحيان القافية ليوجد شكلاً أو أنموذجا جديداً يهيمن على ذوق المتلقي , و على تقديم جمالية أخرى تبعا لقدرته و حسن استخدامه لموهبته الأخاذة .
كما أنه يبتعد عن الوقوف غالباً داخل القصيدة أو النص لأنه يشعر في بعض الأحيان أن ذلك يؤدي إلى الضعف و النفور أو الانكماش لأن القارئ رفض بشدة قصيدة الحداثة أيام ولادتها الأولى , كما يغلب على البياتي المحاولة الجادة بعدم اختراق الوزن كما فعل كثير من الشعراء , , إذا اضطر إلى ذلك فلابد من الخروج إلى تفعيلة أخرى تجعل القارئ يحتفظ باحترامه للانسياب العاطفي الذي كان قد انسجم معه ... يقول البياتي في مدن الخوف :
مدن تعيش على الإشاعات / الأكاذيب / الأقاويل / الخواء .
و على دم الإنسان و الحق المضاع .
و تنام في خوف على باب الطواغيت الصغار .
و بعضوها / المذياع / تفتح ما تشاء .
و برغم ما يظهر من هدوء على قصيدة البياتي , إلا أن الصدق الكامن في أعماق النص الشعري لديه يجعل المتلقي يتلمس المفردات و المقاطع فيراها مشحونة بتكثيف معبر خلال الزخم الطالع من الإحساس المكون عواطف الشاعر الذي يأبى إلا أن تكون منسوجة من عواطف الإنسان و همومه , لهذا تأتي كلماته و مفرداته الشعرية مليئة بالدهشة برغم من تخيل القارئ أن الثورة هادئة في شعره , و الوقع أنها أقدر من غيرها على التحريض لما تملكه من زخم و عاطفة صادقة .. يقول :
يتوهج في نور المشكاة .
متحداً في ذات الله .
لا / مثل شعوب الأرض .
يتحدى في ثورته الموت .
و من هنا نجد أن النص الشعري يحمل في دواخله خفايا تلامس الجرح المقابل , تشتعل فتوقد ناراً ثم تذهب إلى مكانها كالنيازك , و لابد مكن أن تدرك أن الشاعر هنا ابتعد عن التشتت و الرمز و الضياع , فهو يدرك أن القصيدة الغارقة بالرمز منهزمة تماماً فلا أثر لها على فرد أو على جماعة مهما تمادى الإدعاء أو تطاول ... فالبياتي حاضر تماماً في الشعر الرشيق , يستخدم أدواته و يعبر عن مكنوناته و هو متمكن من خلف الحالة التي تدخل التاريخ حتى و لو اتهمت بالوضوح فلابد لأي قارئ أن يتريث قليلاً البنى الأخرى الدالة على متانة البنى التحتية لقصيدة قوامها الإنسان .
يقول البياتي في بستان عائشة :
بستان عائشة على الخابور .
كان مدينة مسحورة
عرب الشمال .
يتطلعون على قلاع حصونها , و يواصلون البحث عن أبوابها .
و يقدمون ضحية للنهر في فصل الربيع .
لعل أبواب المدينة تستجيب لهم .
و هنا تكمن القيمة الجمالية التي ترتكز عليه القصيدة من حيث ما تحتوي من تلاحق المعاني و الصور التي ترتبط ببعضها بشكل وثيق مع القوة الدلالية و النسيج المؤسس لقصيدة يشعرك البياتي أنك من المفترض أن تتلمس كيانها كاملاً في تجربته العريق و الأصيلة ... فلماذا لا نكمل قوله في بستان عائشة وهو يقول ؟ :
فتفتح كلما داروا / ....... اختفى البستان ...... و اختفت الحصون .
فإذا خبا نجم الصباح .
عادوا إلى "حلب" لينتظروا ..... و يبكوا ألف عام .
فلعلهم في رحلة أخرى إلى الخابور
يفتتحونها ... و لعلهم لا يفلحون .
ألا يشعر القارئ بشيء غريب ربما تدفعه الدهشة للبكاء أو اليأس أو الأمل ... و أخيرا: لقد مات عبد الوهاب البياتي و هناك في قاسيون على جرح ما احتضنته عريشة ياسمين و طارت إلى بستان عائشة ليخلدا معاً .
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى